سيقوم هذا المقال باستعراض بعض مخرجات الدراسة المسحية التي قام بها الباروميتر العربي بالتعاون مع البي بي سي. تم الترويج للاستطلاع تحت مسمى «الاستطلاع الكبير» The Big BBC News Arabic Survey وتم نشر نتائجه في يونيو حزيران 2019، وقد غطى الفترة 2018 و2019، وشمل 25 ألف شخص تمت مقابلتهم شخصيًا في عشر دول.
أبرز مخرجات الاستطلاع
فيما يلي، ندرج أبرز المخرجات التي ركز عليها الإعلام بعد إعلان النتائج:
- وجود نزعة ابتعاد عن الدين في أوساط العرب.
- ثُلث سكان المنطقة يقولون أنهم يعانون من الاكتئاب.
- في العراق، عدد الرجال الذين تعرضوا للتحرش يفوق عدد النساء اللواتي تعرضن له.
- وجود آراء متضاربة حول دور وحقوق النساء: الغالبية يؤيدون تولي المرأة لزمام الحكم ورئاسة الدول ونفس الحق في الطلاق، ولكنهم في ذات الوقت يعتقدون أن القول الفصل في المنزل يجب أن يكون من نصيب الرجل.
- نصف البالغين تحت سن 30 يفكرون في الهجرة.
- نسبة اللبنانيين الذين لا يرون إشكالًا في المثلية هي 6% فقط.
- من ناحية السياسات الدولية، يفضل سكان المنطقة سياسات الرئيس التركي إردوغان في المقام الأول (أكثر من 50% يدعمون سياساته)، وبعده الرئيس الروسي پوتين (28%) وفي قاع القائمة حل الرئيس الأميركي السابق ترامپ (11%) والذي سيذكره الكثير من العرب بصفته الرئيس الذي نقل السفارة الأميركية إلى أورشليم القدس.
- ولذلك، ولأمور أخرى، فمن ضمن كل 10 أشخاص، 6 يرون أن العنف ضد الولايات المتحدة أمر يمكن تفهمه.
- يفضل العرب في المجمل كذلك إجراء التبادل التجاري مع الصين، وذلك بنسبة 51%، مقابل 42% مع بريطانيا و38% مع الولايات المتحدة.
- انخفاض الثقة في اللاعبين السياسيين الدينيين منذ اندلاع الثورات العربية عام 2011، وذلك يشمل حماس وحزب الله والإخوان المسلمين.
- أكثر من نصف مستخدمي الإنترنت يرون في وسائل التواصل الاجتماعي مصدرًا أكثر موثوقية من التلفزيون والجرائد في غالبية الدول التي أجري فيها الاستطلاع.
للمزيد يمكن مطالعة هذا المقال، والذي يحتوي الكثير من الرسوم البيانية والأرقام التي توضح هذه النتائج.
سياق استطلاعات الباروميتر العربي
نحتاج أن نبقي في ذهننا توقيت الدورات الاستطلاعية التي أجرتها شبكة الباروميتر العربي مقارنة بالأحداث الكبيرة الجارية على الساحة العربية. باستثناء الدورة الأولى التي تم إجراؤها في بدايات استطلاعات الشبكة بين الأعوام 2006 و2009، نجد أن الدورتين الثانية (2010-2011) والثالثة (2012-2014) جاءتها في خضم أحداث كبيرة، فالعالم 2011 شهد اندلاع الثورات العربية التي رافقتها تغيرات مجتمعية واقتصادية وفكرية كثيرة، ثم في أواسط العام 2014 أنشأ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام دولته في خضم الفوضى التي بدأت سابقًا، لذا، فمن المعقول القول أن الدورة الثانية لم تشهد تبعات الثورات العربية بعد، وإنما جاءت تلك في الثالثة. كذلك، لم تكن تبعات قيام دولة داعش وصعود ثم سقوط دولة الإخوان في مصر (والذي تزامن تقريبًا مع صعود داعش) قد ترسخت مع نهاية الدورة الثالثة. لذلك، فإن التغيرات التي سجلتها الدورة الرابعة (2016-2017) والدورة الخامسة (2018-2019) تحتوي الآثار التراكمية لأحداث السنوات التي سبقت، ومن هنا يأتي منطق المقارنة بين نتائج الدورتين الثانية والثالثة من جهة والدورة الخامسة التي تعاون فيها الباروميتر العربي مع البي بي سي.
انخفاض التدين لدى العرب
والآن لننظر إلى بعض نتائج «الاستطلاع الكبير» ونقارنها بنتائج استطلاعات سابقة أجراها الباروميتر العربي بغية استشفاف نزعات على مدى عدة سنوات، لكن تركيزنا سينحصر في الجانب الديني ومحاولة استنتاج بعض الأمور العامة فيما يتعلق بانخفاض التدين ومعناه. ذلك أن هذا القول بانخفاض التدين هو قول عام بعض الشيء وفي تفصيله وربطه بأسئلة الاستطلاع المتعلقة بالصلاة تحديدًا قد تظهر بعض أمور حول طبيعة هذا الانخفاض، وسنقدم تلخيص ذلك على شكل ڤيديو يشمل النتائج الأساسية والمقارنات فيما بين السنوات. لغرض إنتاج الأرقام المذكورة في الڤيديو، تم استخراج الملفات المتعلقة باستطلاعات الباروميتر العربي من موقعهم باستخدام أداة تحليل البيانات التي يوفرونها.
في البداية، قد نتساءل عن مدى قدرة السؤال عن التدين على سبر ما يفكر فيه المشاركون حقًا، ذلك أن صفة التدين قد تكون هلامية إلى حد بعيد تعتمد على موقف الشخص من مفهومها، فالتدين قد يُفهم منه التقيد الشديد والتزمت، وقد يُفهم منه مجرد الممارسة الطبيعية لشعائر ومتطلبات الدين، ومن المفهوم تمامًا تجنب القائمين على الاستطلاع السؤال عما لو كان الشخص يؤمن بإله أو لادينيًا أو ملحدًا مثلًا (هم يسألون عن الدين بشكل منفصل عن السؤال عن التدين، ويحددون في الخيارات الإسلام والمسيحية، لكنهم يتركون للمشارك خيار التطوع بذكر خيارات أخرى كاليهودية والإلحاد)، فهذه الأوصاف المباشرة كانت ستؤدي بالكثيرين على الأرجح إلى الانغلاق وعدم إعطاء أجوبة حقيقية.
أيًا كان الفهم الذي تكون لدى المشارك النموذجي، فإن مقارنة نتائج الدورة الثالثة (أو الثانية) مع نتائج الدورة الخامسة (الاستطلاع الكبير) بصدد عدم التدين تظهر تغيرًا واضحًا. ويمكن تقسيم إجابات المشاركين بحسب الدول إلى المجموعات التالية:
- تونس وليبيا والجزائر تضاعفت فيها نسب عدم التدين، لكن في حالة الجزائر كانت النسب في الدورتين أقل: تونس وليبيا تأثرتا بموجة الثورات التي أسقطت الحكام السابقين، ولا بد أن هذا أسهم بخلق جو من التحرر الذي سمح للكثيرين بالتعبير عن عدم تدينهم. لم تمر الجزائر بنفس عملية التحول، حيث أجهضت الاحتجاجات قبل أن تتطور، لكن الجزائر ليست معزولة عن العالم، ولربما كان لأصداء الإرهاب الإسلامي الذي تعرضت له في أواخر القرن الماضي أصداء، خاصة مع صعود داعش. تونس كانت مصدر انطلاق الثورات، كما أنها تملك تاريخًا من العلمانية يسبق ذلك، لذا، فليس من المستغرب
- لبنان وفلسطين والعراق شهدت زيادات طفيفة: والبلد الذي يشذ هنا في الظاهر هو العراق، والذي تأثر بشكل كبير بتداعيات قيام الدولة الإسلامية. لكن العراق لم يكن حينها حديث العهد بالعنف والاضطرابات، لذا، فرغم كل ذلك يبدو أن العراق وصل مرحلة استقرار فيما يتعلق بعدم التدين في ظل تلك الظروف المتدفقة.
- المغرب ومصر شهدتا قفزات كبيرة من نسب مئوية صغيرة: تم وضع هذين البلدين في نفس الفئة رغم الاختلافات الجذرية بسبب طبيعة التغير في النسب المئوية. كباقي الدول، تأثر المغرب بالثورات في البلدان الأخرى وشهد احتجاجات تمخضت عنها إصلاحات دستورية تعلقت بحرية التعبير وحقوق المرأة وصلاحيات رئيس الوزراء، وهي كلها أمور تساهم في خلق بيئة فيها تحرر. أما في مصر فالحال مختلف، فمن إسقاط حكم دكتاتور إلى حكومة إخوانية، فإسقاطها، كانت التغيرات بلا شك جذرية وجارفة، وكانت آثارها على عدم التدين ملموسة بشكل أوضح بكثير من أماكن أخرى.
- السودان والأردن تضاعفت فيها النسب تقريبًا مع بقائها منخفضة نسبيًا: مرة أخرى، بلدان مختلفان؛ فالسودان عام 2011 مر بعملية انقسام، ولاحقًا بعد عدة احتجاجات (2011، 2013 ثم 2018) سقط حكم البشير عبر انقلاب عسكري، في حين أن الأردن شهد احتجاجات تعلقت بالوضع الاقتصادي عام 2011 لكنها لم تؤدي إلى نتائج ملموسة.
- اليمن هو الوحيد الذي شهد تناقصًا ملحوظًا في نسبة عدم التدين: شهد اليمن إسقاط حكم علي عبد الله صالح في خضم ثورات 2011، وهذا ليس حدثًا بسيطًا. لكن الحرب التي اندلعت في العام 2015 وما رافقها من دمار وفقر ومجاعة لا بد أنها دمرت كل إحساس بالتحرر والتفاؤل، وليس من العجيب أن يتحول الناس إلى الدين في ظل حالة القنوط تلك.
شمل الاستطلاع العديد من الدول، لكن هنالك استثتاءات واضحة، فدول الخليج غائبة عن الصورة، رغم مشاركة الكويت في البدايات. وبحسب مايكل روبنز مدير الباروميتر العربي، فإن تلك الدول لم توفر الصلاحية والحرية الكافية للشبكة لإجراء الاستطلاع، لكنه يشتبه بوجود تدين محافظ فيها. ثم هنالك بلدان مهمان استثنيا من الدراسة هما السعودية التي شهدت تحولات داخلية كبيرة، وسوريا التي لا زالت لحظة هذه الكتابة تمر في حرب أهلية وتبعاتها التي كان من ضمنها صعود داعش على أرض سوريا، لذا فالصورة تنقصها أجزاء عديدة.
رغم أهمية التغيرات التي سجلتها الاستطلاعات، يجب أن نبقي في أذهاننا ذلك الإشكال الذي ذكرناه بصدد مصطلح التدين والكيفية التي قد يُفهم فيها. فمن الصعب استقاء شيء مباشر عن الإلحاد أو اللادين من هذه النتائج، ذلك أن عدم التدين قد يعني أن صاحبه ملحد أو بلا دين، لكنه قد يعني إيضًا أمورًا أخرى عديدة. كذلك، فقد يختبئ بعض الملحدين في فئة من قالوا أنهم متدينون، حيث يظهر التدين للعلن خوفًا على أنفسهم.
التغير في نسب الصلاة اليومية والأسبوعية
الصلاة اليومية
لنفحص الآن ما وجدته الاستطلاعات بصدد الصلاة، باعتبارها نمط العبادة الأوضح. في المجمل نرى على مدى الدورات الثلاث المبينة في الرسم البياني وجود شبه ثبات أو انخفاض في نسب من يؤدون الصلاة اليومية. لكن هذه المقارنة غير مباشرة، ذلك أن سؤال الدورة الخامسة كان «كم مرّة عادة تقوم بأداء الصلاة؟» في حين أنه في الدورتين الثانية والثالثة كان «هل تقوم بأداء الصلاة يوميًا؟». من الواضح أن السؤالين متقاربين، لكنهما غير متكافئين. لأجل ذلك، فعند تمثيل البيانات قمنا بالتالي: في جواب سؤال الدورتين الثالنية والثالثة جمعنا نسبة من أجاب «دائمًا» و«في أغلب الأوقات» وتم استثناء «أحيانًا» و«نادرًا». أما في جواب سؤال الدورة الخامسة، فجمعنا نسبة من أجاب «خمس مرات يوميًا» و«يوميًا»، واستثنينا من أجاب «عدة مرات في الأسبوع» «ومرة في الأسبوع»، و«على الأقل مرة في الشهر» و«أبدًا».
عند مقارنة نسب عدم التدين بنسب المداومة على الصلاة اليومية تظهر بعض التضاربات، فمثلًا:
- في ليبيا نجد نسبة عالية جدًا وشبه ثابتة من المداومة على الصلاة، لكن الليبيين يقولون أن التدين لديهم انخفض بشكل كبير.
- في اليمن انخفضت نسبة عدم التدين وبالمقابل حصل كذلك انخفاض في نسبة المداومة على الصلاة اليومية.
- العراق لم يشهد تغيرًا يذكر في نسبة عدم التدين، ومع ذلك انخفضت نسبة المداومة على الصلاة.
- في تونس زادت نسبة عدم التدين بشكل ملحوظ أكثر من نقصان نسبة المداومة على الصلاة.
هذا يعيدنا مرة أخرى إلى غموض مصطلح التدين والطرق المتباينة التي يمكن أن يفسر بها. هذا الأمر متوقع طبعًا، فلكل بلد خصوصيته، وهذه الخصوصية كما يبدو تطال المفهوم الذي يسود عن التدين ودور الصلاة في المجتمع المعني. يمكن استخلاص بعض الاستنتاجات من أرقام المداومة على الصلاة وأرقام عدم التدين والتي قد تلقي بعض الضوء على هذه التضاربات. إن غموض مصطلح «التدين» سيؤدي إلى وجود تقاطعات بينه وبين الصلاة بصور ودرجات تتباين من شخص لآخر ومن مجتمع لآخر. لو قمنا بجمع نسب من يداومون على الصلاة إلى نسب غير المتدينين في نفس الدورة، فالمتوقع الحصول على حوالي %100 إذا افترضنا أن المداومة على الصلاة لا تتوافق مع عدم التدين، وهو افتراض أولي معقول. وبالفعل، لو قمنا بهذا الحساب في الدورتين الثالثة والخامسة، كل على حدة، نجد أن المجموع يقارب %100 في المجمل، مما يؤكد أن الاعتقاد الشائع هو أن عدم التدين يرتبط بالضرورة بعدم المداومة على الصلاة. لكن، في ليبيا بالذات نجد أن المجموع يزيد على %100 بشكل ملحوظ، مما يوحي بوجود نسبة من الليبيين الذين لا يرون علاقة ضرورية بين الصلاة والتدين. أما حالة اليمن فتبدو مختلفة، حيث أن كلًا من نسب المداومة على الصلاة ونسب عدم التدين انخفضت، مما قد يعني أن الدور الذي تلعبه الصلاة اليومية قد انحسر نوعًا ما، ربما لصالح الدعاء المباشر، نظرًا لقول الناس أن تدينهم قد زاد. رغم أن مجموع النسبتين يقارب %100 في غالبية الدول (ولكنه يقل عنها)، إلا أن هنالك استثناءات نرى فيها المجموع أقل من %100، مثل لبنان (%70 في الدورة الخامسة) والمغرب (%81٫4 في الدورة الخامسة) والجزائر (%81٫5 في الدورة الثالثة). كون هذه الأرقام تتكون من جمع نسبة من يداومون على الصلاة إلى نسبة غير المتدينين، فإن ما يتبقى سيكونون من لا يداومون على الصلاة ومن يرون أنفسهم متدينين. طبعًا، هذا الاستنتاج الأخير غير دقيق، فهنالك تقاطعات حتمية بين المجموعات تغير من تلك النسب. في حالة لبنان بالذات، قد يكون من الممكن فهم مجموع النسبة المتبقية (%30 في الدورة الخامسة) إلى وجود نسبة عالية من المسيحيين الذين يمتلكون مفهومًا يختلف عن مفهوم المسلمين عن الصلاة، وسؤال الدورتين الثانية والثالثة يلائم الطرفين، لكن سؤال الدورة الخامسة يبدو موجهًا أكثر تجاه المسلمين.
الصلاة الأسبوعية
والآن لنفحص نسب أداء الصلاة الأسبوعية. نلاحظ من الرسم البياني أدناه عدة ملاحظات:
- عدا عن الجزائر، توجد في المجمل نزعة انخفاض في نسب من يداومون على صلاة الجماعة الأسبوعية (الجمعة/الأحد)، خاصة عند مقارنة الدورة الخامسة بالثانية والثالثة.
- نسبة من يؤدون الصلاة اليومية في كل الدول أعلى من نسبة من يؤدون الصلاة الأسبوعية عند مقارنة أرقام الدورة الواحدة.
- نرى زيادة في مصر من الدورة الثانية إلى الثالثة تزامنت مع صعود حكومة الإخوان تلاها انخفاض مع حلول الدورة الخامسة وسقوط حكومة الإخوان.

النسب المئوية لمن يؤدون الصلاة الأسبوعية: كان سؤال الدورتين الثانية والثالثة: «هل تقوم بصلاة الجمعة/الأحد؟»، وقد جمعنا فيه نسبة من أجاب «دائمًا» و«في أغلب الأوقات» و«أحيانًا» واستثنينا «نادرًا» و«لا أعرف» ومن رفض الإجابة. سؤال الدورة الخامسة كان: «هل أنت دائمًا، في معظم الأحيان، نادرًا، أو أبدًا؟ حضور صلاة الجمعة»، وجمعنا فيه نسبة من أجاب «دائًما» و«معظم الأوقات» و«بعض الأوقات» واستثنينا «نادرًا»، ثم استثنينا «لا ينطبق» و«لا أعرف» من حساب النسبة.
تبدو في المسألة تضاربات جديدة، فلو أخذنا الجزائر على سبيل المثال، نستذكر أن نسبة المداومة على الصلاة اليومية فيها قلْت وكذلك نسبة التدين، لكن هنا نرى تزايدًا في نسبة حضور الصلاة الأسبوعية. وفي المجمل نرى أن الإقبال على الصلاة الأسبوعية أقل من اليومية. يحتاج نمطا الصلاتين جهدين مختلفين نوعًا ما من المؤمن، فالصلاة اليومية (الإسلامية) تحتاج مداومة كبيرة والتزامًا بجعلها نوعًا من العادة، في حين أن الصلاة الأسبوعية يغلب عليها الطابع الاجتماعي أكثر من التعبدي، وإن كان فيها عنصر مداومة معين. وما يبدو من هذه الأرقام هو أن إدماج الصلاة اليومية في سياق الحياة أسهل من التفرغ أسبوعيًا لصلاة الجمعة أو الأحد. يوجد قدر ما من التحكم بتوقيت الصلاة اليومية ومدتها، بينما الصلاة الأسبوعية فتستغرق بكل مراسيمها بين ساعة إلى ساعتين، ناهيك عن الاجتماعيات المرافقة لها وأن حدوثها يأتي يوم العطلة الأسبوعية التي قد يفضل الناس قضاءها بنشاط مختلف، وهذا على الرغم من الفضل الذي يروج له للصلاة الجماعية.
توحي الانخفاضات من الدورة الثالثة إلى الخامسة بفقدان صلاة الجماعة الأسبوعية جزءًا من دورها كاجتماع. والبديل البديهي الذي استحوذ على ذلك الدور هو وسائل التواصل الاجتماعي الذي لا بد صار يفي، ولو جزئيًا، بحاجة الاجتماع والتواصل، خاصة لدى الجيل الأصغر. كذلك، فعدد الصلوات اليومية خلال الأسبوع كبير، في حين أن الصلاة الأسبوعية واحدة، لذا، فحتى لو كان الشخص يؤدي بعض الصلوات اليومية قد يكفي ذلك ليعتبر أنه يؤديها مقابل تفويته الصلاة الأسبوعية. وثمة اقتراح آخر قدمه مايكل روبنز في حديث مع الـEcomnomist:
Nearly half of Iraqis described themselves as “religious”, up from 39% in 2013. Yet the share who say they attend Friday prayers has fallen by nearly half, to 33%. Perhaps faith is increasingly personal
أي أنه ينسب التعارض الظاهري بين ازدياد نسبة العراقيين الذين قالوا بأنهم متدينون من جهة وانخفاض نسبة من يؤدي منهم صلاة الجمعة إلى تحول الإيمان إلى شأن شخصي، وهذا إن صح، فهو يعني وجود تحول من نوع ما نحو علمانية تقوم على جعل الممارسة الدينية أمرًا شخصيًا. ورغم جاذبية الفكرة، إلا أن فيها افتراض أن من يقوم بذلك يتخذ رخصة في إعادة تعريف المقبول من غير المقبول من دينه، وهو ربما وصف يتلاءم مع المسيحية التي لا توجد فيها عبادات إلزامية كالإسلام، لكن الفكرة تظل مثيرة للاهتمام، لكن بلدًا كالعراق، يبدو أن دمج الحياة العامة بالدينية فيه لا زال قويًا، وما علينا إلا أن نتذكر المهرجانات الدينية التي يقيمها الشيعة والتي تتحول إلى مناسبات تعم البلد ككل.
ملاحظات ختامية
في مقابلة أخرى تحت عنوان ?Is the MENA Region Becoming Less Religious أجرتها Religion and Diplomacy التابعة لجامعة جورجتاون قدم روبنز المزيد الملاحظات، نلخص بعضها:
- تظل المنطقة متدينة عمومًا، وقلّةٌ هم من يصفون أنفسهم بغير المتدينين.
- لعل قلة تدين تونس وإلى حد ما الجزائر ترجع إلى الروابط القوية مع أوروپا. أما في ليبيا فانحياز خليفة حفتر لكتلة الدول المعادية للإخوان المسلمين أدى إلى زيادة العلمانية فيها.
- لا تظهر هذه التأثيرات بنفس الحدة في الدول غير المتجانسة دينيًا والمنقسمة حسب خطوط الهوية الطائفية، كالعراق ولبنان.
- لا يبدو أن انخفاض مستوى التدين أثر على مواقف أخرى، كقبول المثلية وحقوق المرأة.
- لعبت حكومة الإخوان في مصر وظهور داعش دورًا في انخفاض مستوى ثقة الناس بالأحزاب الدينية والقادة الدينيين، إضافة إلى حملات حكومية ضد الأحزاب الإسلامية، كما في مصر.
رغم ملاحظته الأولى بصدد كون المنطقة متدينة عمومًا، إلا أن علينا أيضًا رؤية السياق؛ فمن ناحية ارتفعت نسبة من يصفون أنفسهم بغير المتدينين في المنطقة من %8 إلى %13، وربما الأهم هو أن الأمر متركز في الجيل الصاعد، فهذا التغير يشمل نصف الشباب التونسي وثلث الشباب الليبي وربع الشباب الجزائري وخُمس الشباب المصري. هذا يعني أن هؤلاء عندما يكبرون، ما لم يحصل تغير يدفع بهم إلى التدين، سيقومون على الأرجح بتنشئة جيل جديد غير متدين. أي أننا لو افترضنا استمرار الظروف التي أدت إلى قلة تدين الجيل الحالي، فمن المعقول توقع زيادة نسب عدم التدين في الجيل الذي سيلي.
إضافة إلى جانب العبادات الذي رأيناه قد انحدر، نرى كذلك انحدار جانب حاكمية الدين في المجتمع، والذي انعكس في انخفاض نسبة من يثقون بالقادة الدينيين بين الدورتين الثالثة والخامسة من %51 إلى %40، وانخفاض نسبة من يثقون بالأحزاب الدينية من %35 إلى %20، وهذه تبدو إدانة كبيرة للأحزاب الدينية. لكن، تظل نسب الثقة بالقادة الدينيين كأشخاص أعلى بشكل ملحوظ من نسب الثقة بالأحزاب الدينية. وهذا أمر متوقع في البيئة العربية التي لم تعرف حقًا حكم الديموقراطية والتعددية الحزبية، وهو في هذه الحالة يستحضر نموذج الحكم الإسلامي التقليدي بواسطة «أمير للمؤمنين»، مقابل الحزب الديني في مجتمع تعددي.
توجد جوانب أخرى كثيرة غطتها هذه الاستطلاعات، ونشجع القارئ على استكشافها، لكن بهدف عدم المبالغة في إطالة هذا المقال، اقتصر التحليل على الصلاة والتدين بشكل أساسي.
يحتوي الڤيديو التالي تلخيص ما جاء في هذا المقال: