في دراسة غير مسبوقة للتنوع الوراثي من حيث شموليتها، قام باحثون من معهد ويلكوم سانجر Wellcome Sanger Institute وجامعة كيمبردج البريطانية باستخراج تسلسل 929 جينوم (مجين) بشري. وقد غطت الدراسة كمًا كبيرًا من التنوع الوراثي الذي لم تسبق دراسته مما أعطى لمحات جديدة عن التاريخ التطوري للبشر، مظهرًا تعقيد العملية التي أدت إلى تنوع أجدادنا وهجرتهم واختلاطهم نسلهم حول العالم، ومعطيًا معلومات حول عرضة بعض الأعراق لعدد من الأمراض الوراثية، ونم نشر الدراسة في مجلة ساينس Science المحكّمة بتاريخ 20 مارس آذار 2020.
تجمع الأوساط العلمية اليوم أن أجداد البشر المعاصرين انفصلوا عن أجداد النياندرتال والدينيسوڤان قبل حوالي 500 ألف إلى 700 ألف سنة قبل خروج البشر المعاصرين من أفريقيا خلال المئة ألف سنة الماضية.
وقبل حوالي 50-70 ألف سنة بدأ بعض البشر بالتوسع إلى خارج إفريقيا وبالتدريج اختلطوا مع مجموعات قديمة في أوروپا وآسيا، وتبع ذلك نمو مطرد مع هجرات واسعة النطاق واختلاط كبير تزامن مع انتقال الكثير من المجموعات من جمع الثمار والصيد إلى إنتاج الطعام، وذلك خلال الـ10 آلاف سنة المنصرمة.
ما قامت به الدراسة الحالية هو استخدام تقنية جديدة لاستخراج تسلسل الحمض النووي لفحص مجموعة كبيرة ومتنوعة من البشر تغطي 929 جينومًا من 54 منطقة جغرافية ولغوية وثقافية متعددة من أرجاء العالم، وقد تم ذلك في إطار مشروع التنوع الجينومي البشري Human Genome Diversity Project.
وجد الفريق ملايين التنوعات الجديدة التي لم تكن معروفة في الدنا DNA والتي تظهر حصرًا في مناطق جغرافية معينة. ورغم أن غالبية هذه التنوعات كانت نادرة، فقد شملت تنوعات شائعة لدى بعض الشعوب الأفريقية والأقيانوسية (شعوب أستراليا وما حولها). ولكن لم تجد الدراسة ظهور أي من هذه التنوعات في كامل جينومات أي منطقة جغرافية رئيسية مع انعدامها في مناطق جغرافية رئيسية أخرى، مما يعني أن غالبية التنوعات الشائعة موجودة في كل أرجاء العالم.
يقول الدكتور أندرس برغستروم Andres Bergström:
إن مدى التفصيل الذي توفره هذه الدراسة يمكننا من الحصول على نظرة معمقة في التاريخ البشري، وبالأخص داخل أفريقيا حيث أننا لا نعرف الكثير عن المقياس الزمني لتطور البشر. فنجد أن أجداد المجموعات البشرية المعاصرة قد تنوعوا عبر عملية متدرجة ومعقدة تركزت بشكل كبير في ال250 ألف سنة الماضية، شهدت تدفقات وراثية كبيرة بين السلالات المبكرة. ولكننا نرى أدلة على وجود أجزاء صغيرة من السلالات البشرية تعود لمجموعات شهدت تنوعًا في فترة أقدم من ذلك.
أما إيلين بلانشيه-كوخ Hélène Blanché-Koch رئيسة مركز الموارد الأحيائية في مركز دراسة التحول البشري Centre d’Etude du Polymorphisme Humain (CEPH) في پاريس فقالت:
إن موارد مشروع التنوع الجينومي البشري قد سهلت التوصل للعديد من الاكتشافات الجديدة عبر العقدين الأخيرين حول التاريخ البشري. من المشوق رؤية أن تكنولوجيا استخراج التسلسل الحديثة ستستمر في مساعدتنا في فهم النوع البشري والكيفية التي تطورنا بها.
كما وقدمت الدراسة أدلة على أن وجود النياندرتال في سلالة البشر الحديثة تعود إلى حادثة اختلاط رئيسية واحدة، تواصل فيها بضعة أفراد من النياندرتال مع البشر بُعيد خروج البشر وتوسعهم إلى خارج أفريقيا. وبالمقابل فإن قطع الدنا الموروثة من الدينيسوڤان قد وجدت عند الفحص لدى أفراد من أوقيانوسيا وشرق آسيا، مما يوحي بحدوث الاختلاط مرتين على الأقل.

بنية التنوع الوراثي لدى المجموعات البشرية حول العالم، يقدم الشكل المقادير التقريبية لأربع صنوف مختلفة من التنوع الوراثي الموجودة في مناطق جغرافية مختلفة. وقد تم إيضاح المجموعات المشمولة في الدراسة بواسطة نقاط على الخريطة.
كما وأن اكتشاف قطع صغيرة من دنا نياندرتالي في شعوب غرب أفريقيا يعكس على الأرجح تدفقًا راجعًا في وقت لاحق من أوراسيا نحو أفريقيا، مما يزيد في تأكيد أن التاريخ الوراثي البشري اتسم بطبقات عديدة من التعقيد، حيث كان يعتقد حتى عهد قريب أن البشر الموجودين خارج الصحراء الأفريقية الكبرى فقط هم من يمتلكون دنا من النياندرتال.
نقلًا عن ScienceDaily وWellcome Trust Sanger Institute.